الرئيسية
الأخبار
|
المال والأعمال هل نحن بصدد تغير عقيدة البنوك المركزية؟ |
2012-12-24 10:41
في غضون فترة لا تتجاوز أربعة أيام في منتصف ديسمبر/كانون الأول الجاري أشارت ثلاثة تطورات لا يوجد ظاهرياً رابط بينها إلى أن البنوك المركزية الحديثة تمر بتطور تاريخي، والواقع أن الدلالات الضمنية تذهب إلى ما هو أبعد من الدوائر الأكاديمية والسياسية. وبقدر ما يكتسب هذا التحول من زخم -وهو ما يبدو مرجحا- فسوف يكون تأثيره ملموساً على الأداء الاقتصادي وعمل الأسواق وتقييم أسعار الأصول.بدأت التطورات الثلاثة في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول الجاري بالولايات المتحدة، حيث أعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) برئاسة بن برنانكي أنه سيذهب إلى ما هو أبعد كثيراً من مضاعفة حجم الأوراق المالية السوقية التي يعتزم شراؤها في العام 2013 (لتصل إلى تريليون دولار) من أجل تحفيز الاقتصاد. ولم يترك مجلس الاحتياطي الفيدرالي أي مجال للشك في اعتزامه الإبقاء على هذه الوتيرة إلى أن ينخفض معدل البطالة في الولايات المتحدة بشكل كبير إلى نسبة 6.5% على الأقل، شريطة أن يظل معدل التضخم تحت السيطرة عند مستوى 2.5% أو أقل. ووفقاً لأغلب المحللين فإن الجديد في هذا الإعلان كان استعداد المركزي الأميركي لتبني موقف واضح من عتبات سياسته النقدية الكمية، وبالتالي من مسار سياسته النقدية في المستقبل. ولكن قراءتي لهذا الإعلان من مجلس الاحتياطي الفيدرالي (وما ذكره برنانكي في مؤتمر صحافي) تشير إلى أن الإبداع في الأمر يذهب إلى ما هو أبعد من هذه الدرجة. برنانكي قال إنه سيواصل تحفيزه النقدي إلى أن تتقلص البطالة بأميركا إلى 6.5%(الفرنسية) التضخم والبطالة إن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يتبع نهجاً مختلفاً تماماً في التعامل مع خصائص العتبتين الكميتين: حيث ستستند عتبة البطالة إلى بيانات تاريخية، في حين تستند عتبة التضخم إلى توقعات بنك الاحتياطي الفيدرالي ذاته. وهذا الفارق الدقيق من شأنه أن يخلف تأثيرات مثيرة للاهتمام فيما يتصل بالتشغيل. والأمر الأكثر أهمية هو أنه يعطي الأولوية لهدف البطالة قبل هدف التضخم، والواقع أن إعادة تنظيم التفويض المزدوج للمركزي الأميركي على هذا النحو، والذي أشرت إليه بوصف "لحظة فولكر المعكوسة"، كان واضحاً لبضعة أشهر. اسمحوا لي أن أشرح لكم الأمر بالعودة إلى سبعينيات القرن العشرين التي اتسمت بالتضخم، عندما قرر الرئيس جيمي كارتر اختيار بول فولكر لتولي رئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي، فمن أجل منع ديناميكيات التضخم المَرَضية من التحول بشكل أعمق إلى جزء لا يتجزأ من بنية الاقتصاد (بما في ذلك ربط الأجور بمستوى التضخم)، عمد فولكر إلى تغيير الموقف التخطيطي جذرياً فجعل التضخم بمثابة عدو الشعب الأول، فقد ارتفع ما يعادل سعر الفائدة الرسمي اليوم إلى 22% عندما قرر شن حملة جريئة لمكافحة التضخم، ولقد تقبل بعض التكاليف الكبيرة مقدماً على أمل تحقيق مكاسب كبيرة على الطريق. كانت "لحظة فولكر" هذه -كما يعرف طلاب تاريخ الاقتصاد الآن- بمثابة المحفز ليس فقط "لكسب الحرب ضد التضخم"، بل وأيضاً لتحول دام عقودا فيما يتصل بالحكمة التقليدية في عمل البنوك المركزية. والأمر الأكثر أهمية هو أن استهداف التضخم والاستقلال عن السلطات المالية أصبحا من المعالم الأساسية للسياسة السائدة، وهو شرط أساسي لأي بلد يسعى إلى تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، والذي يكتسي أهمية بالغة للنمو الاقتصادي المستدام وزيادة معدلات خلق الوظائف. حافز التغيير وأظن أن المؤرخين سينظرون ذات يوم إلى إعلان مجلس الاحتياطي الفيدرالي الشهر الماضي باعتباره الحافز إلى تغيير مشابه في الحكمة التقليدية، سواء في أميركا أو مختلف أنحاء العالم. وسوف يستنتجون أن عاملين كانا السبب في تحفيز برنانكي: ارتفاع البطالة المستمر في الولايات المتحدة والذي يهدد -مثله مثل مشكلة التضخم التي واجهها فولكر- بالتحول إلى جزء لا يتجزأ من بنية الاقتصاد، كما يهدد بإصابة هيئات صنع القرار السياسي الأخرى بالشلل. " المؤرخون سوف يستنتجون أن عاملين كانا السبب في تحفيز برنانكي: ارتفاع البطالة المستمر في أميركا والذي يهدد بالتحول إلى جزء لا يتجزأ من بنية الاقتصاد، كما يهدد بإصابة هيئات صنع القرار السياسي الأخرى بالشلل " هناك ما يقرب من خمسة ملايين أميركي يعدون عاطلين لآجال طويلة، وهم يشكلون أكثر من 40% من إجمالي البطالة، وهناك ملايين آخرون خرجوا تماماً من قوة العمل المحتسبة، ونحو الربع ممن تتراوح أعمارهم بين 16 و19 عاما ضمن قوة العمل عاطلون. وكل هذا يهدد بقدر خطير من اضمحلال المهارات، كما يواجه الشباب العاطلون الخطر الإضافي المتمثل في التحول إلى جيل ضائع. لذا فإنه من المستغرب تماماً أن تكون كل هيئات اتخاذ القرار، باستثناء مجلس الاحتياطي الفيدرالي، غائبة في الأساس عن هذا المشهد. ولا تكمن المشكلة في الافتقار إلى الزعامة من جانب الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي قدم مقترحات عديدة لمعالجة مشكلة البطالة في البلاد، بما في ذلك مبادرة الوظائف الشاملة، بل إن المشكلة تتمثل في الكونغرس الذي يخضع لاستقطاب شديد والذي لم يتخذ أية قرارات اقتصادية كبرى طيلة الأعوام القليلة الماضية، فيما عدا القرارات الخطأ (مثل الهاوية المالية) التي تهدد بدفع الاقتصاد الأميركي إلى الركود. في ظل الشلل السياسي الذي من المرجح أن يستمر في العام المقبل، وعلى الرغم من بعض نوبات التوافق العَرَضية فإن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سوف يظل مشغولاً بتنفيذ النقلة النوعية لعمل مؤسسة البنك المركزي، وقد ينتشر التأثير إلى حد كبير، وهو ما يعيدنا إلى التطورين الآخرين في فترة الأيام الأربعة تلك من منتصف الشهر الجاري. بريطانيا واليابان بعد سويعات من إعلان المركزي الأميركي ذكرت التقارير الإخبارية أن الحكومة البريطانية مستعدة للنظر في تغيير المرتكز السياسي لبنك إنجلترا المركزي. وخلافاً لبنك الاحتياطي الفيدرالي فإن الهدف الوحيد للبنك المركزي البريطاني كان لسنوات طويلة تثبيت استقرار الأسعار، من دون أي تفويض إضافي فيما يتصل بتحفيز التوظيف. وإذا فشل المركزي البريطاني في تحقيق الهدف بشكل متكرر، كما كانت الحال بالفعل، فيتعين على محافظ البنك إرسال خطاب تفسيري علني إلى الحكومة، والآن يبدو الأمر وكأن الساسة ربما يفكرون في تكليف البنك بمسؤولية تحفيز النمو الاقتصادي والتوظيف. أما التطور الثالث فقد حدث في اليابان، حيث بدأت حكومة شنزو آبي من الحزب الديمقراطي الليبرالي المنتخبة حديثاً، والتي تستحوذ على أغلبية الثلثين في البرلمان، في الضغط على المركزي الياباني لحمله على تحفيز النمو، وهي الموضوع التي قد تتطور المناقشة بشأنه إلى وضع أكثر صلابة. " يمكن أن نتوقع بأن تولي البنوك المركزية البطالة قدراً أعظم من الاهتمام، ولكن من المؤسف رغم ذلك أن هذا التحول لن يحل المشكلة التي تتسبب في تآكل النسيج الاجتماعي لأي مجتمع " باختصار نستطيع أن نتوقع من البنوك المركزية أن تولي البطالة قدراً أعظم من الاهتمام، وإنه لأمر طيب للغاية أن يولي القطاع الرسمي مشكلة البطالة المزيد من الاهتمام. ولكن من المؤسف رغم ذلك أن هذا التحول لن يحل المشكلة التي تتسبب في تآكل النسيج الاجتماعي لأي مجتمع. قلة الحيلة فبقدر ما يرغب برنانكي وآخرون في أن تتبدل الحال -وبقدر ما يسعى الساسة المتشاحنون لإلقاء المسؤوليات السياسية على آخرين- فإن البنوك المركزية لا تملك الأدوات المناسبة للتعامل مع أحد عناصر أزمة البطالة، وهو العنصر الناجم عن عدم كفاية الاستثمار في التعليم والتدريب ورأس المال المادي، وعلى نحو مماثل لا تستطيع البنوك المركزية علاج أعباء الديون المتراكمة أو إصلاح النظام المالي المختل أو معالجة تحديات الإصلاح المالي في الأمد المتوسط بمفردها. وأفضل ما تستطيع البنوك المركزية أن تقوم به هو كسب الوقت ولو بتكاليف متزايدة، حتى يتسنى لهيئات اتخاذ القرار الأخرى تدبير أمورها على النحو اللائق. وإذا أغلقت هذه الفرصة السانحة فإن النقلة النوعية المرئية الآن في السياسة النقدية بالولايات المتحدة وبريطانيا واليابان تهدد مؤسسات تشكل أهمية بالغة لضمان حسن إدارة الاقتصاد بفقدان مصداقيتها واستقلالها السياسي بشكل خطير.
خدمات المحتوى
|
تقييم
محتويات مشابهةمحتويات مشابهة/قالاكثر تفاعلاًالافضل تقييماًالاكثر مشاهدةًالاكثر ترشيحاًالافضل تقييماً/قالاكثر مشاهدةً/قالاكثر ترشيحاً/ق |