شـبـكــة عـمّـــار
إخبارية - ترفيهية
- تعليمية



جديد الصور
جديد الأخبار
جديد المقالات


جديد الصور

جديد البطاقات

جديد الصوتيات

المتواجدون الآن


تغذيات RSS

 
Dimofinf Player
جسر من حرير

2012-07-30 11:35


لازمة الطريق
" أيها الفتي السالك درب النور ، الطريق رحب يسع ذويك ، فأمسك بلجم جيادهم ، واحذر صيحة منك تنفرها ، فإن كان فاقترب منها ، وتحمل ما يؤذيك من رهج سنابكها ، وامسح بالأعناق تأنس إليك ، واستأنف بأحبتك المسير. واقطعه بحداء ونشيد ، ترقب ثغوراً باسمة ، وقلوباً تهفو ، وعيوناً تحنو، يغار منكم الود ، وإذ بالربوة الخضراء تبرز من أغوار الأرض ، فتفترشون بساطها الأخضر ، تداعبكم نسمات الربيع ، يشجي مسامعكم إيقاع السكون الرتيب ، فتهمس في حنان " أنتم مني وأنا منكم ".

كان شاباً طموحاً دائم التطلع إلي الأفق البعيد ، لا تكف أفكاره عن تخطي حواجز الزمن والعبور إلي المستقبل ، كالنحل في خليته ، صاحب عمل دءوب ، من ينظر إلي بريق عينه يستلهم منهما صورة مستقبله المشرق ، وأما أهله فالسعادة تغمرهم وهم يرقبون النجاح تلو النجاح ، يغبطهم القريب والبعيد علي مثل هذا الابن الناجح الذي علقت عليه أسرته الآمال. وشاء الله تعالي أن يفيق الشاب علي الحقيقة التي غابت عنه طويلاً ، ولم يكن يستحضر من معانيها إلا النذر اليسير : أن مآله إلي موت ، وبعد الموت نشور وحشر ثم حساب وجزاء ، ثم إلي جنه أو نار ، فاستجمع الفتي همته ، وسلك درب الحياة بقوة الجواد المضمر ، وطفق يلبي نداء الجنان. وأما الأهل فقد اكتفوا برصد الواقع الجديد. ولكن مهلاً. ما للشاب قد بدا سائر أيامه متجهماً عابساً ، لا يعبأ بمظهره كسابق عهده ، لماذا انحسرت اهتماماته الدراسية وصارت تتراجع شيئاً فشيئاً ، فغـد ت لا تحتل مكانة في حياته. يصيح الأهل متسائلين ماذا حدث؟ ما الذي غيرك أين الطموحات ؟ أين الآمال ؟ فيجيب بكلمات كأنها خرجت من بئر سحيق : أنها دنيا زائلة فانية ، ما الذي يسر فيها ؟ لماذا أعمرها واترك إعمار دار البقاء ، لقد اخترت ما يبقي علي ما يفني . وبلغ الفتي حداً أثار جزعهم فصار يعرض عما لذ و طاب من الطعام حتى يهذب نفسه ويقمع شهوته ويلزم نفسه بطول السهر حتى يروضها ، فتحطمت آمال أسرته ، ودب الهم والحزن في الأجواء حتى تكدرت حياتهم ، فأشاروا بأصابع الاتهام إلي المسئول الأول والأوحد عن ذلك الانحدار إنه ( الالتزام ).
كانت هذه صورة لحالات التخبط والخلل في الرؤى والتصورات والمفاهيم التي تعتري بعض الشباب بعد استيقاظ فطرتهم ، وولادة رغبتهم في سلوك درب الاستقامة. هذه السلوكيات المتمخضة عن المفاهيم المغلوطة هي مما يعكر صفو الأجواء الأسرية مما يكون له رد فعل يختلف من أسرة إلي أخري ، ويتراوح ما بين الإغراق في الهموم والأحزان ، وبين محاولات انتشال فلذة الكبد من براثن الأفكار ( الغازية ) التي داهمته.
إن هيمنة توهم التعارض بين الدنيا والآخرة – واعتبارها طريقين متضادين يتحتم اختيار أحدهما – لهو ضرب من ضروب تشوه المفاهيم . وهناك عدة عوامل أسهمت في تكوين ذلك الخلل المفاهيمي منها :
1- الفهم المغلوط لنصوص الوحيين التي تحتوي علي ذم للدنيا كقوله تعالي ( إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ) وقوله تعالي ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) فظن البعض أن القرآن يذم الدنيا مجردة. ولكن بجمع أطراف النصوص وضم بعضها إلي بعض ، وباستقراء سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وصحابته الأخيار . ندرك أن القرآن يذم الدنيا مقارنة بالآخرة ونعيمها ، ويذم الاغترار بالدنيا والركون إليها والرضا بها ومحبة الحرام منها. وذمها كذلك لتنبيه الغافلين. وفي رسالة ( الدين والحياة ) يقول د / محمد العبدة " وكذلك عندما يذم القرآن الشهوات فليس المراد إبطالها بالكلية ، وإنما تصريفها بما أباحه الشرع، أما قوله تعالي ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) فهذا تذكير بما هو خير منها ، لا لبيان قبحها في نفسها " ثم ذكر قول رشيد رضا في المنار ( فإن الله تعالي ما فطر الناس على شيء قبيح ، وكيف يكون حب النساء في أصل الفطرة مذموماً وهو وسيلة إتمام حكمته في بقاء نوع الإنسان ، وكيف يكون حب المال مذموماً لذاته ، وقد جعل بذل المال من آيات الإيمان).
2- ضعف الارتباط بجيل الصحابة والذي يمثل قمة التوازن والاعتدال والوسطية ، والعدول إلي العصور التي برزت فيها بعض النماذج المتكلفة ، حتى أنه قد يتبادر إلي أذهان البعض عند إطلاق مصطلحات السلف أو أهل السنة أنهم الأجيال المتأخرة عن الجيل الأول . هذه النماذج قد زهٌدت الناس إلي حد ما في الجيل الأول ، كيف لا وهم يسمعون قصصا لم يعهدوا مثلها في جيل الصحابة . كمن كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يصفر جسمه ، أو يصلي في شدة البرد علي السطح حتى لا يغلبه النعاس مع أن النبي كان هديه ( وأصلي وأنام ) ، أو يمتنع عن الزواج لبلوغ منازل الصديقين مع أن النبي قال ( وأتزوج النساء ). فهؤلاء وإن كانوا أهل فضل وورع إلا أن الصحابة كانوا أفضل منهم قال عبد الله بن مسعود ( أنتم أكثر صوماً وصلاةً من أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم وهم كانوا خيراً منكم قالوا لم يا أبا عبد الرحمن ؟ قال لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الأخرى ) . هذه المقالة لابن مسعود لا تفيد أفضلية الصحابة علي غيرهم فحسب ، أنما هي توضيح لمعني الزهد في الدنيا حيث أن الصحابة كان منهم الأغنياء و من يشتغلون بالتجارة ، ومن كان معروفا بالمزاح ومن يتعلم اللغات. وأما النماذج التي ذكرناها فما ظهرت قبل القرن الثاني الهجري وربما كان ظهورها ردة فعل لإقبال الناس علي الدنيا والركون إليها فتكوٌن اتجاه مضاد.
3- قد لا يكون هذا السلوك مبنياً على خلل مفاهيمي ، ولكن ينبني على خلل بنيوي في الصفات الشخصية ، فمثلاً قد يكون الشاب قبل التزامه خامل الهمة كسولاً يميل إلى الدعة والراحة ، وبالتالي يكون ضعيف الإنتاج في حياته العملية من دراسة أو عمل ، فعندما يتجه نحو الالتزام ترافقه تلك الصفات فيكون أحد الرجلين ، إما أن تتغير صفاته إلى الأفضل ويصير إيجابياً فعالاً وذلك سبب ومؤشر لصحة وقوة التزامه بكل ما تحمله كلمة الالتزام من معاني الشمول والتوازن والاعتدال والإيجابية ، وإما أن يفتقد التزامه هذه المعاني فيبقى على حاله الأول فحينئذٍ يبرر لذاته وللآخرين فشله وبطالته وسلبيته بذلك الالتزام ، وقد يجد بغيته في الهروب من مواجهة الواقع المشحون الذي يؤثر الهرب منه على إصلاحه كما هو الحال عند من يترك الجامعة بحجة الاختلاط لأنه يضعف ويجبن عن التحرك الإيجابي والدعوة إلى الله في هذا الوسط الجامعي.
4- بعض المحاضن التربوية والتي تسلك مع المٌرَبى مسلكاً غير متوازن بين التجرد الروحي والارتكاس المادي. والانهماك في تعلية البناء الروحي – وإن كان أساساً في التربية – دون الالتفات إلي جوانب التربية الأخرى بالإضافة إلي إهمال وضع المواعظ في موضعها المناسب والوقت المناسب والتوجيه إلي كيفية الجمع بين الدنيا والآخرة.
* وهذه المفاهيم المغلوطة هي التي أقعدت الأمة عن ركب الحضارة والرقي والنهضة ، وأخرجتها من ميدان السباق الحضاري ، وبعد أن تركنا الدنيا للغرب جعل منها سلاحاً يواجه به ديننا . و هذه المفاهيم هي التي أنجبت تلك النفوس المهترئة والأرواح الهزيلة ، والهمم السافلة التي رضيت بالخنوع والاستسلام ، وقبعت خلف أسوار ذاتها تنظر إلي الأحداث العظام في بلادة وخمول ، وهذا مجال يطول الحديث عنه ليس هذا مقامه ، وأما أثر هذه المفاهيم المغلوطة علي الشاب كفرد فحدث ولا حرج ، يكفي أنها تغرقه في لجج الحيرة بين إلحاح الفطرة ومقتضي القناعات ، فيرى الدربين متضادين وعليه أن يسلكهما معاً فكيف مع هذا التضاد؟ وفي الغالب يكون مآل من هذا حاله إلي النكوص والتراجع لأنه ضيق علي نفسه الخناق وحرم نفسه من سعة الإسلام فصار أشبة بمن قال الله فيهم ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ). إن الشاب الذي يقتحم دائرة الغلو والانقطاع عن الدنيا يٌقوي من ثقته بحاله فورة الإيمان الأولي ولكن المسكين لا يفقه أن الإيمان يزيد وينقص والفتور طبيعة وجبلة ، فعندما يعتريه يبدأ في التفكير في نداء فطرته. إنه يحتاج إلي الزواج والزواج يحتاج إلي مادة وتلك تحصل بالكد والعمل الذي يسرقه من ذلك الجو الإيماني ، وحتى إن توافرت الإمكانيات المادية فالمجتمع يطالبه بوضع اجتماعي معين حتى يسمح له بالاندماج والانخراط فيه ، فربما يظل الشاب لمدة سنوات تضيع من عمره في ذلك الصراع. وفي الغالب وبعد فوات أزهي سنوات العطاء ، يقرر الشاب أخيراً أن عليه الدخول في معترك الحياة ويستحضر ساعتها كل النصوص التي تحث علي العمل والكسب والزواج والتوسط والاعتدال وأن ذلك أمر محمود شرعاً . ولأن الفتي قد تربي في مناخ القبو ولم يعتد خوض المعارك ، ودأب علي دفن رأسه في الرمال حال المواجهات وبالتالي لم يعرف للتوازن شكلاً . فمآله في الغالب إلي التراجع تحت ضغط الواقع ويكون التزامه مجرد مرحلة مر بها قد يتذكرها أحيانا.
أخي الشاب : إن لم تكن أنت هذا الفتي فلا تكنه ، وفي الحالتين أري أنك تحتاج إلي ما تواصل به تعديل المسار حتى يصب ذلك في تنقية الأجواء الأسرية وصيانة روابطها حيث أن للمفاهيم المغلوطة التي ذكرناها وما يتمخض عنها من سلوكيات أبلغ الأثر في طبيعة العلاقات الأسرية. فلعلك قد أدركت الآن ما يعنيه ( جسر من حرير ) .
أنه جسر صنعته تلك المفاهيم المشوهة المغلوطة. بديع منظره لكنه لا يقوي علي حمل من يعبر عليه فهذا الجسر لن يقوى على حملك إلى الآخرة .
وسوف أحاول جاهداً إن شاء الله أن أصف للداء المذكور دواءً ،فانتظرني في الحلقة القادمة لنبحث سوياً عن ( المفتاح : 143). وذاك هو العنوان
تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 1127


+++

خدمات المحتوى
  • مواقع النشر :
  • أضف محتوى في Digg
  • أضف محتوى في del.icio.us
  • أضف محتوى في StumbleUpon
  • أضف محتوى في Google


تقييم
1.00/10 (4 صوت)

الاكثر تفاعلاً

الافضل تقييماً

الاكثر مشاهدةً

الاكثر ترشيحاً

الافضل تقييماً/ق

الاكثر مشاهدةً/ق

الاكثر ترشيحاً/ق


Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.